منذ عقود والعالم يلهث وراء تحرير التجارة وفتح الحدود أمام السلع دون قيود، حتى أصبح المستورد القادم من آلاف الكيلومترات أقرب إلى المستهلك من المصنع الذى يعمل على بعد أمتار من بيته. والنتيجة أن الكثير من الدول النامية خسرت مصانعها تحت ضغط المنافسة غير العادلة، بينما فازت قلة من الدول صاحبة الإنتاج الضخم المدعوم.
اليوم، لم يعد السؤال ما إذا كنا نحتاج إلى حماية صناعتنا، بل كيف نحميها قبل أن نفقد ما تبقى من قلاع إنتاجية صنعت تاريخًا وبنت مدنًا وشغّلت ملايين الأيدى العاملة.
الصناعة ليست مجرد أرقام فى تقارير اقتصادية، هى الركيزة الحقيقية للاستقلال الوطنى: فدولة لا تنتج غذاءها ودواءها وأدوات إنتاجها تبقى رهينة لتقلبات الأسواق العالمية وأمزجة الموردين. فى أوقات الأزمات، كالحروب أو الجوائح، يدرك العالم أن الاكتفاء الذاتى ليس رفاهية بل شرط للبقاء.
خذ مثلًا قطاع مستلزمات البناء: حديد التسليح، الأسمنت، الزجاج، الأسلاك النحاسية… كلها صناعات لا تقوم نهضة عمرانية أو مشروعات بنية تحتية بدونها. تخيل لو أن بلدًا بحجم مصر يوقف مشروعاته القومية لأنه ينتظر شحنات حديد أو كيماويات من الخارج!
الدول الكبرى لا تترك هذا الباب مفتوحًا. أوروبا تدعم صناعات الطاقة النظيفة، وأمريكا رفعت الرسوم الجمركية لحماية صُناع الصلب والألومنيوم والسيارات، والصين بدورها تحمى سلاسل إنتاجها الحيوية. فلماذا يُطلب من الصناعة المصرية أن تخوض معركة غير متكافئة فى سوق بلا قواعد؟
ما تحتاجه مصر ليس جدارًا يمنع المنافسة، بل مظلة عدالة تحمى المصانع المحلية من سياسات الإغراق ومن الواردات المدعومة فى دولها الأم. المطلوب حوار شفاف بين الحكومة ومنظمات الأعمال لتحديد الصناعات الإستراتيجية التى ينبغى أن تحصل على مظلة حماية ذكية: رسوم مدروسة، تسهيلات تمويلية، وحوافز للتحديث التكنولوجى والتصدير.
وفى الوقت نفسه، لا يجوز أن تتحول الحماية إلى ذريعة لرفع الأسعار أو لإنتاج سلع منخفضة الجودة. الحماية الحقيقية تبدأ من المصنع نفسه حين يلتزم بأعلى معايير الكفاءة والتنافسية، وإلا فلن تدوم أى ميزة حمائية طويلاً.
الرهان الحقيقى هو على بناء قاعدة إنتاجية حديثة: من المكونات الإلكترونية والدواء إلى الصناعات الثقيلة ومواد البناء. ما يُصنع محليًا يعنى وظائف، يعنى عملة صعبة، ويعنى اقتصادًا قادرًا على الصمود أمام الأزمات.
إذا أردنا سيادة اقتصادية حقيقية، فعلينا أن ندرك أن الصناعة ليست قطاعًا تقليديًا، بل خط الدفاع الأول عن استقلال القرار الوطنى.
ولا يقتصر الرهان على الصناعات الثقيلة فحسب، فهناك قطاعات وطنية أخرى لا تقل أهمية عن الحديد والبتروكيماويات، مثل الصناعات الهندسية التى تنتج الأجهزة المنزلية والمعدات الكهربائية، والصناعات النسيجية والملابس الجاهزة التى تعد من أكثر القطاعات كثافة فى العمالة وتمتلك فرصًا كبيرة فى التصدير، إلى جانب صناعة الجلود التى تحمل هوية مصرية عريقة وقيمة مضافة عالية، وكذلك صناعة الأثاث التى تتميز بها مصر وتستطيع منافسة المنتجات العالمية إذا توافرت لها الحوافز والدعم.
كما تأتى صناعة الأدوية فى مقدمة الصناعات الإستراتيجية، إذ تمثل عنصرًا حيويًا لتحقيق الاكتفاء الذاتى فى أوقات الأزمات والطوارئ الصحية، فضلاً عن قدرتها على التوسع فى التصدير للأسواق الإقليمية والعالمية بما يرفع حصيلة العملة الصعبة.
هذه القطاعات مجتمعة، إذا حصلت على دعم تكنولوجى وتمويلى وحوافز للتوسع فى الأسواق الخارجية، يمكن أن تتحول إلى قاطرة للتشغيل وزيادة حصيلة العملة الصعبة وتعزيز الأمن الاقتصادى.