في السنوات الأخيرة، تحولت السياسات التجارية إلى ساحة معركة اقتصادية بين القوى الكبرى، يقودها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي رفع راية “أمريكا أولًا” كاستراتيجية لإعادة التوازن التجاري. ومع هذه السياسة، بدأت العلاقات الاقتصادية تتوتر، خاصة مع الصين وكندا والمكسيك وأوروبا، مما أطلق عليه الإعلام مصطلح “الحرب التجارية”.
الصراع مع الصين: الاقتصاد مقابل النفوذ
الصين، كونها أكبر مصدر للبضائع إلى الولايات المتحدة، كانت الهدف الرئيسي لسياسات ترامب الحمائية. فرضت واشنطن تعريفات جمركية تصل إلى مئات المليارات من الدولارات على السلع الصينية، بحجة حماية الصناعات الأمريكية وتقليل العجز التجاري. ولكن في المقابل، لم تقف الصين مكتوفة الأيدي، بل ردّت بفرض تعريفات على السلع الأمريكية، خاصة المنتجات الزراعية، مما أدى إلى تأثر المزارعين الأمريكيين الذين يعتمدون على السوق الصيني.
لكن السؤال الحقيقي هنا: هل كان الهدف اقتصاديًا بحتًا، أم أن الحرب التجارية كانت جزءًا من صراع أوسع على النفوذ السياسي والتكنولوجي؟ فمثلاً، لم تكن العقوبات على “هواوي” مجرد خطوة اقتصادية، بل كانت رسالة واضحة بشأن من يسيطر على مستقبل التكنولوجيا والجيل الخامس.
اتفاقية نافتا الجديدة: شد وجذب مع كندا والمكسيك
لم تكن الصين وحدها في مرمى نيران ترامب، فقد أعاد التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA)، التي تجمع بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. الهدف المعلن كان تحسين شروط الاتفاق لصالح الشركات الأمريكية، خاصة في قطاعات السيارات والزراعة. وُلدت الاتفاقية الجديدة تحت اسم “USMCA”، والتي فرضت شروطًا أكثر صرامة على المكسيك وكندا، ولكنها في نفس الوقت ضمنت للأسواق الأمريكية استقرارًا تجاريًا مع أقرب شركائها.
أوروبا: شريك أم خصم؟
لم تسلم أوروبا من نهج ترامب، حيث هدد بفرض رسوم جمركية على السيارات الأوروبية، وفرض بالفعل تعريفات على الصلب والألومنيوم، مما أثار استياء الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، لم تكن أوروبا بنفس مستوى المواجهة كما حدث مع الصين، نظرًا للعلاقات التاريخية بين الطرفين.
من الرابح والخاسر في هذه الحرب؟
الحقيقة أن الحروب التجارية نادرًا ما تحقق فوزًا واضحًا لأي طرف، فبينما تحاول الحكومات حماية صناعاتها، يتحمل المستهلك والشركات الثمن في صورة ارتفاع الأسعار واضطراب سلاسل التوريد. وفي النهاية، تدفع هذه النزاعات الشركات للبحث عن أسواق بديلة ومصادر توريد جديدة، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد التجاري العالمي بالكامل.
ما الدروس المستفادة؟
1. التجارة لم تعد مجرد أرقام اقتصادية، بل أداة سياسية: فالقيود التجارية أصبحت جزءًا من سياسات النفوذ والردع بين الدول.
2. التوازن بين الحماية والانفتاح ضروري: فبينما قد تكون الحماية ضرورية في بعض القطاعات، إلا أن العزلة التجارية قد تؤدي إلى خسائر فادحة.
3. التكيف هو الحل: الشركات التي استطاعت تغيير استراتيجياتها بسرعة والبحث عن أسواق جديدة كانت الأقل تأثرًا بهذه النزاعات.
في النهاية، تظل التجارة الدولية شبكة معقدة من المصالح المتشابكة، حيث لا يمكن لدولة أن تعمل بمعزل عن العالم. وبينما قد تنجح بعض السياسات في تحقيق مكاسب قصيرة المدى، فإن الحلول المستدامة تكمن دائمًا في التفاوض والتكامل الاقتصادي.
مهندس محمود غزال رئيس مجلس ادارة MGS للصناعه